الجمعة، 24 مايو 2024

نجاة الشيخ محي الدين ابن عربي من مآلات الشطحات الصوفية

 


نجاة الشيخ محي الدين ابن عربي من مآلات الشطحات الصوفية لم يأت محض صدفة. لقد ساهمت فلسفته في جعله "غير قابل لـ اللمس". وسوف يحاول هذا المقال القاء ضوء على محاور فلسفته التي اكسبته تلك الحصانة.

يبدأ المشوار الصوفي عادة بـ "الأنس بالله" سواء بطريق الجذب او الانجذاب، وفي كلتا الحالتين فان المسار بعدها يتحد متجهاً نحو العزلة او الاعتكاف لبذل المزيد من النوافل (وما يزال عبدي يتقرب الي بالنوافل حتى احبه).

وفي حين كانت العزلة والاعتكاف مقبرة للعديد من اصحاب التجربة الصوفية الاصيلة، الا ان الشيخ محي الدين ابن عربي كان مؤمناً برسالة رجوعه الى الخلق بعد وصوله الى الحق لعمارة الكون، وقد ابقاه ذلك متصلاً باستمرار بالواقع من حوله، ولم تستغرقه الوحشة من محيطه كما حدث مع كثيرين غيره.

ثم ان رحلة المعرفة بالله تغوص بعمق في حضرة الخيال. فمن اولى لحظات التأمل والتفكر، يجد الصوفي عالمه اشبه بالكون المحيط به، العالم المرئي منه لا يشكل سوى نسبة بسيطة، ربما لا تتعدى الخمسة بالمئة، بينما الباقي عالم غير مرئي، واقع معظمه في ابعاد تخيلية، تعجز عن ادراكه الحواس الطبيعية، ولابد من اعمال خياله فيه لمحاولة تكوين صورة مفهومة عنه.

وفي هذه المرحلة هناك اشكاليتان: الاولى هي محاولة استكشاف الجزء المتمم في حضرة الخيال للجزء الظاهر في الواقع المرئي. والاشكالية الاخرى هي، ان الصور الواردة على حضرة الخيال مجزأة، ومرتبكة، وليس لها جمعية تنظمها. فمثلاً عايننا الشاة تظهر في صورة اسماعيل عليه السلام؛ واخوة يوسف في صورة كواكب، وابويه في صورة الشمس والقمر، والسنوات في صورة بقر في رؤيا الملك!

بالنسبة للاشكالية الاولى، فقد اعتمد الشيخ ابن عربي مبدأ "السببية" حاكماً على  قبول اي امتدادات بين حضرة الخيال والواقع الطبيعي.

وبالنسبة للاشكالية الثانية، فقد اعتمد "التعبير" كطريقة وحيدة لفهم اي رؤى يتم استقبالها عبر قناة حضرة الخيال. ولقد ساهم ذلك بشكل كبير في الحد من اغواء وتغول فيضان الصور والتهيئات والهلاوس التي يزخم بها اثير حضرة الخيال.

وبطبيعة الحال، فان فوضى الصور التي تفيض بها حضرة الخيال تنعكس كذلك بفوضى في اللغة وقدرة الفاظها على التعبير عن مشاهدات ورؤى حضرة الخيال. وهنا نجد الشيخ محي الدين ابن عربي قد الزم نفسه بالالفاظ القرآنية ولم يتعداها الى غيرها؛ ولكنه استعان بحيلة "البوميرانج" (Boomerang) على اللغة، وذلك ما اكسبه تفوقاً متميزاً. فكان يطلق اللفظ حراً ويتتبع حركة رحلته عبر الـ 360 درجة من استخداماته حتى عودته. وقد اعطاه ذلك ثراء منقطع النظير، انعكس على قدرته على التعبير عن مشاهداته دون الخروج عن اللغة المتداولة، وهو ما سمح ببقاءه متصلاً مع واقعه، رغم غرابة المواضيع التي يطرحها ووعورتها.

واخيراً، فانه قد ادرك عجز التفكير الاستدلالي وحيداً على تقديم تفسيرات مناسبة لنصوص مثل "وما رميت اذ رميت ولكن الله رمى"! وبالتالي استطاع ان يبتكر لنفسه طريقة تفكير شبكية تسمح له بالربط بين الواقع الملموس وامتداداته في حضرة الخيال، وبالتالي استطاع ادخال اثر عوامل جديدة في عملية تفكيره مثل فكرة التجلي الالهي مثلاً. لقد سمحت له هذه الطريقة ابقاء شرط السببية حياً وقائماً ومهيمناً على طريقة تفكيره، ولكنه سمح له في ذات الوقت بان يكون منفتحاً على سلة مهمة من المؤثرات، التي لم يكن التفكير الاستدلالي قادراً على التعامل معها.