الثلاثاء، 18 مارس 2014

من فوائد السفر: تفريج هم واكتساب معيشـة وعلم و آداب وصحبة مـاجد!



جمعتني به دعوة على العشاء. رجل في العقد الخامس من العمر تقريباً، أمريكي الجنسية، ينبئك مظهره عن مستوى اجتماعي رفيع.

بدأ الحديث بيننا، أنا وهو ومضيفنا، بتبادل التحيات والأخبار الخفيفة.. لاحظ أثناءها مضيفنا أن الضيف يتحدث بلكنة تدل على أنه من أصل غير أمريكي، فاستوضح منه عن ذلك..

أجاب الضيف: ملاحظتك في مكانها.. فأنا سويسري الأصل.. هاجرت الى الولايات المتحدة في الستينات.

فاستطردت لابقاء الحديث حياً، لابد وأن اولى سنوات الهجرة كانت شاقة ومتعبة!

قال: بالفعل.. حتى اني اذكر اننا عندما وصلنا الى ميتشيجان بالولايات المتحدة لم يبق معنا أنا وزوجتي ما يكفينا حتى لاكمال الرحلة الى كاليفورنيا حيث كنا نعتزم الاقامة.. ولك أن تتخيل كيف يمكن أن تكون بداية كتلك.

قلت: هل لي أن أطمع في أن تخبرني عن تلك البداية القاسية وما عساها توحي اليك من دروس.. فانت اليوم انسان ناجح، وحققت مكانة اجتماعية متميزة، برغم البداية التي ذكرت.. وتلك تجربة تستحق الوقوف عندها وتأملها..

قال في ادب وتواضع: اشكرك على حسن ظنك..

في ذلك الوقت، بدأت أطباق العشاء في الوصول. ويبدوا أن الدقائق التي استغرقها ترتيب أطباق الأصناف على السفرة كان كافياً للضيف للتفكير في طلبي.. فبعد انتهاء الجرسونات من ترتيب الأطباق وافتتاح المضيف للعشاء، قال الضيف: اجابة لطلبك، أستطيع أن أرى بوضوح ثلاثة دروس اثرت في مجرى حياتي؛ فعندما وصلت الى الولايات المتحدة كنت معدماً كما أوضحت لك، وكان لابد لي أن أجد عملاً، أياً كان ذلك العمل، لأعيل نفسي وزوجتي. ورغم شهادتي العليا في العلوم الادارية، فاني لم أجد عملاً حينها سوى "فني اصلاح أجهزة مكتبية" أهلني له خبرتي التي اكتسبتها أثناء فترة التجنيد. ونظراً لضيق ذات اليد، كان من الضروري لي الالتحاق بعمل اضافي؛ فكنت أعمل في سوبرماركت بعد الانتهاء من عملي اليومي..

على كل حال، دارت الايام، وكنت فيها راضياً بقدري، ومخلصاً لعملي..

ثم في يوم من الأيام، كان علي أن انتهي من أحد أعمال الصيانة بأحد الأجهزة المكتبية، ولكن كان قد حان موعد التحاقي بعملي في السوبر ماركت، فاستأذنت من رئيسي أن يسمح لي أن آخذ الجهاز معي على أن أتم اصلاحه بعد عودتي من فترة مناوبتي في السوبر ماركت، ووعدته أن يكون جاهزاً في الغد. تردد في البداية، ولكنه وافق أخيراً على مضض، ولعله كان يتصور أن عرضي ذلك مجرد تحايل للحاق بموعد وظيفتي الأخرى..

وبالفعل لم أنم تلك الليلة حتى انتهيت من اصلاح الجهاز وتأكدت أنه يعمل على الوجه المطلوب..

في صباح اليوم التالي، عندما رأى رئيسي ذلك، وكان رجل ذو علاقات واسعة، طلبني الى مكتبه وقال لي: أعتقد أنك تستحق فرصة أفضل مما أنت فيه. وفوراً رفع سماعة الهاتف واتصل بأحد معارفه، وأخبره أنه سيرسلني اليه، وأنه يعتقد أن محدثه لن يندم على ضمي الى شركته. وفي الوقت الذي كنت أحلم فيه أن يصل أجري الى مئة دولار في الاسبوع، اذا برئيسي يطلب لي أن لا يقل راتبي عن مائة وخمسة وعشرون دولاراً في الاسبوع؛ وكانت تلك نقلة هامة في حياتي، وكان الدرس الاول الذي تعلمته: أن لا تستصغر الوفاء بالوعد حتى في أبسط الأشياء، فالوفاء بالوعد يزرع الثقة والسرور في النفوس، وهما أساس كل خير في التعامل بين الناس.

*****

أما الدرس الثاني فقد فاجأني بمفاجأة سعيدة! فلم يكن هناك شيء أكثر إزعاجاً وضجراً لي في صغري قدر اصرار والديّ عليّ لحضور حصص اللغة اللاتينية بعد المدرسة. فلم أر في ذلك الوقت مبرراً لاصرار والديّ، ولم استطع أن أستوعب كيف يمكن لتلك الحصص أن تكون ذات فائدة لي يوماً ما.

ثم حدث أن جاء عملي في شركة دولية؛ وسألني رئيسي يوماً إن كان بإمكاني أن أقوم بتدريس اللغة الفرنسية - بحكم أنها لغتي الأم - لموظفي الشركة اللذين يُتوَقع انتقالهم للعمل في البلدان التي تتحدث تلك اللغة؟ واتفقنا على أن أحاول ثم نرى كيف تكون النتيجة. وفعلاً بدأت في تدريس اللغة لزملائي. ولكم كانت دهشتي شديدة من المدى الذي الذي خدمتني فيه حصص اللغة اللاتينية تلك في تبسيط المادة التي أقدمها لزملائي، ومساهمتها في انجاح تلك الدروس. 

وكان الدرس الثاني الذي تعلمته: أن تعيش كل تجارب حياتك بشغف، حتى ولو لم تفهمها أو تحبها؛ فقد تكون أياً منها فاتحة الخير عليك.


*****

وأما الدرس الثالث فقد صادفني في واحد من أحلك الأوقات التي مرت بي. ففي سنة من السنوات، كان عميل لي في اليابان يعاني من مصاعب مادية في شركته، ونظراً لعلاقتي التجارية به شعرت أن من واجبه علي أن أحاول مساعدته للخروج من تلك الأزمة. وبالفعل بذلت واستعملت كل ما لدي من صلاحيات واتصالات من أجل انقاذه، ووفقت في ذلك لدرجة انه استطاع بعد فترة أن يستعيد مكانه كأكبر موزع لنا في اليابان. ثم انتقل بعدها حسابه الى زميل آخر وانقطع اتصالي به.

بعد ذلك ببضعة سنوات قررت ترك الشركة التي أعمل بها لأسباب خاصة، وكان علي أن أبدأ من الصفر في الشركة الجديدة. ثم في صباح أحد الأيام وجدت على مكتبي طلب توريد كبير معنون بإسمي وتبعه اتصال هاتفي! ولم أصدق ما رأيته وأسمعه، فقد كان طلب التوريد والاتصال من موزع الشركة السابقة في اليابان، ويخبرني أنه علم مؤخراً أنني انتقلت الى عملي الجديد، وأنه قرر الانتقال معي الى حساب شركتي الجديدة!


لن أستطيع مهما وصفت لك أن أعبر عن مشاعري التي أحسست بها في حينها! فقد منحني حساب صديقي الياباني بداية جديدة لحياتي العملية كنت في أمس الحاجة اليها. وكان الدرس الثالث الذي تعلمته: أن تأخذ بيد من حولك أياً كان، فالمعروف يدور بين الناس ولكنه لا يضيع أبداً.



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق