الجمعة، 25 أغسطس 2023

عسكر وتكنوقراط (عما يجري في مصر المحروسة)





اظن انه من المناسب لطرح موضوعنا ان نبدأ بصورة مجملة عن التجارب التكنوقراطية حول العالم بداية من الفترة التي تلت الحرب العالمية الثانية..

 

يبدوا ان الحركة التكنوقراطية خلال هذه الفترة مرت بثلاث مراحل:

 

·     المرحلة الأولى، عندما شعرت بعض الدول بتأخرها التكنولوجي والاقتصادي، وفشل تجاربها التنموية المتكرر؛ وأخذاً بنصائح الدول المتقدمة والمؤسسات الدولية، قامت بحفظ دور للتكنوقراط في التخطيط الاجتماعي والاقتصادي فيها. وقد عانت التكنوقراطية خلال هذه المرحلة فترة شديدة التذبذب، فيها الكثير من رفض توصياتها، والطرد أحياناً، والاستياء الشعبي غالباً؛ وهي المرحلة التي دخلتها مصر في الثمانينات من القرن الماضي.

 

·     المرحلة الثانية، كلما كانت ضغوط التحولات الاجتماعية السريعة، وضرورات الهيكلة الاقتصادية تزداد؛ كانت تزداد معها الحاجة الى افساح المجال بشكل اكبر لتوصيات التكنوقراط ودعمها، والى تحصينها من القوى المعارضة والتيارات الشعبوية.

 

مشكلة هذه المرحلة انها غالباً ما كانت تؤدي الى عجرفة وغرور التكنوقراطية، والى زيادة الاستياء الشعبي من آثار السياسات العقلانية وجفافها، والاوليغارشية المقترنة بها، وعدم احساسها بالتضحيات المجهدة التي تقع على الشرائح الضعيفة من المجتمع.. 

 

وكما حدث في ٣٠ سبتمبر ١٩٦٥م في اندونيسيا، ساق ذلك في ذروته الى لجوء الشباب الى الجيش لتحديث الإصلاحات؛ وهو يشبه من زاوية ما انتهى اليه المشهد في مصر في ٢٥ يناير ٢٠١١م. 

 

·     المرحلة الثالثة، وهي مرحلة نضج النموذج التكنوقراطي الذي وصلت اليه النمور الآسيوية بعد الانهيارات التي واجهتها في أواخر التسعينات من القرن الماضي (والتي بدأت في العام ١٩٩٧م) والقائم على ضرورة العمل الاستراتيجي المتماسك طويل الأجل المُصاحَب ببناء وصيانة شبكة كثيفة من المؤسسات الوسيطة التي يقودها التكنوقراط والتي تعمل بدور الوساطة بين ضرورات التنمية الوطنية والاقتصادات المتقدمة والمؤسسات والصناديق الاستثمارية الدولية.

 

هذه المرحلة هي ما تقف على اعتابه تماماً مصر اليوم. ولكنها لا تزال تراوح مكانها عنده منذ فبراير ٢٠١٦م. فمن شروط نجاح الوساطة مع الاقتصادات المتقدمة والمؤسسات الاستثمارية الدولية وجود دفع على ارض الواقع لتحقيق مدنية تقدمية حقيقية؛ وهو ما لن تعكسه ابداً صورة هيمنة النظام العسكري على نسبة مستفزة من حجم الإنتاج القومي.

 

الشاهد، ان مصر اليوم وبعد رحلة استغرقت ما يقارب الأربعين عاماً او تزيد قليلاً من تطور النضج التكنوقراطي قد وصلت اخيراً الى الصيغة المستعدة لإطلاق قدراتها وتحقيق المستقبل الذي تستحقه؛ اذا استطاع النظام العسكري فيها ان يذكر المصريين والعالم اجمع مرة أخرى بانه الجيش المستنير الحريص على جودة الحياة المدنية الآمنة المطمئنة لشعبه، ويفسح الطريق للتكنوقراط لإكمال مهمة ربط مصر بالاقتصادات المتقدمة والمؤسسات الاستثمارية الدولية.

 

الساحة التي يراقبها العالم اليوم بتدقيق في مصر لم تعد الحياة السياسية والحزبية، وانما العلاقة بين التكنوقراط والنظام العسكري، وحركة الأخير تحديداً التي ستحدد عملياً أي مستقبل ينتظر الجمهورية المصرية. 




ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق